أخر الأخبار
الرئيسية » الارشيف » الفرنساوي والراعي الصغير

الفرنساوي والراعي الصغير

موقع المنار توداي.05 ماي 2020..ع.ل…
ونحن نتصفح بشكل اعتيادي صفحتنا الفيسبوكية، توقفنا بشكل اضطراري عند مقطع
“فيديو” يوثق لشخص قيل أنه فرنسي مقيم بالمغرب، وهو بصدد دهــس قطيع من
الأغنام بسيارته الخاصة، بضيعة فلاحية بمنطقة “دافيد” التابعة للنفوذ
الترابي لإقليم بن سليمان على مشارف مدينة المحمدية، في عملية لا إنسانية حاملة
لكل مشاعر القوة والحقد والغطرسة والتحدي والانتقام، أجهزت على كل القطيع، أمام
أنظار الراعي الصغير الذي اكتفى بمراقبة أغنامه وهي تسحق بين عجلات  سيارة الفرنسي الهائج، في لحظة غضب، غاب فيها
الضمير الإنساني، ونظرا لهمجية السلوك ومأساويـة المشهد الذي لا يمكن فصله عن
المشاهد المؤلمة التي عاشها الآباء والأجداد في زمن الحماية الفرنسية والإسبانيـة،
لم نجد بـدا من الكتابــة، لأن حدثا من هذا القبيل، لا يمكن قطعا المرور عليه مرور
الكــرام، وهو يستحـق التنديد على جميــع المستويات، قبل استحضـار القانون
والقضاء، من منطلــق أن ما حدث، يستحـق ما يناسبه من زجر وعقــاب.
ودون الدخول في متاهات النقاش حول ظروف وملابسات دخول القطيــع من الأغنام
إلى ضيعة الفرنسي، وهل تم ذلك بقصــد أو بدونـه، فما ارتكب الشخص المعني، هــو
تصرف غير مقبول لا قانونا ولا أخلاقا ولا إنسانيـة، لأنه استهـدف بهائـم ظلما
وقسـوة وعدوانا، لا حول لها ولا قوة ولا يسمع أنينها إلا الخالق جل عــلاه، مما
يجعل من الفعل المقترف جريمـة عمدية مع “سبق الإصرار” تستحـق تطبيق
القانون بدون قيد أو شرط، وحتـى إذا ما سلمنا أن الراعي الصغير اعتدى عن طريق
أغنامه على ملكية الفرنسي، فهـذا ليس مبررا ليطبق قانون الغاب ويقترف جريمة بشعـة
بكل المقاييـــس، لا يمكن إلا إدانتها، خاصة في هذه الظرفية الاستثنائية التي
تقتضي الجنوح نحو قيم التعاون والتضامن والتعاضد، والقطع بشكل لا رجعة فيه، مع
مفردات القهر والتسلط والتغطرس والكبرياء، وكان يفترض حل المشكل بالطرق السلمية
المتاحة بإجلاء القطيع أو اللجوء إلى القانون، إذا ما تبين للفاعل، أن القطيع ألحق
به ضررا ماديا، بدل اللجوء إلى “حماقة” لا يقبلها عقل ولا قانون ولا دين
ولا منطق.
ما تم القيام به من سلوك إجرامي، بعيد كل البعد عن التحضر والتمـدن، يضعنا
أمام طرفين متناقضيـن : طرف أول (الفرنسي) يمتلك شـروط القوة والثروة (الأرض)
وربما حتى النفــوذ، وطرف ثان (الراعي الصغير وأسرته) يشكل مرآة عاكسة لواقع حال
الكثير من الأسر المغربية الفقيرة والمعوزة التي تعيش في الأوساط القروية وشبه
الحضرية، التي يتأسس معيشها اليومي على النشاط الرعوي والزراعة المعيشية، وهي أسر
تزداد أحوالها تأزما لاعتبارين اثنين: أولها حالة الجفاف الذي تعيشه الكثير من
المناطق، مما انعكس سلبا على وضعية الكلأ، وثانيهما: التداعيات الاقتصادية
والاجتماعية لجائحة “كورونا” في ظل توقف الكثير من الأنشطة المهنية
والحرفية وفرض القيود على التحركات، وعليه، فالحكومة مطالبة اليوم، بتوجيه البوصلة
نحو العالم القروي وتحديدا نحو الفلاحين الصغار الذين يعيشون من عائدات النشاط
الرعوي، وتمكينهم من الدعم اللازم على مستوى الأعلاف والمواكبة التقنية، خاصة وأن
الكلأ بات مستعصيا في ظل هيمنة أجواء الجفاف في الكثير من المناطق عبر التراب
الوطني.
“الفرنساوي” صاحب الفعل الجرمي الهمجي، قيل أنه مقيم بالمغرب،
ويمتلك ضيعة فلاحيـة بمنطقة “دافيد”(المنصورية) نواحي المحمدية، وهذا
يسمح بالتساؤل المشروع حول ظروف وملابسات تحوزه بالضيعة المذكورة، كما يسمح بفتح
ملفات الملكيات العقارية للأجانب خاصة في المجال القروي، ووضعها تحت المجهر،  للتثبت من مدى احترامها للضوابط القانونية،
علما أن المشرع العقاري فرض قيودا على حق الملكية العقارية في العالم القروي
بالنسبة للأجانب، وفي جميع الحالات، فملكية الأرض أو العقار من طرف الأجانب، ليس
مبررا لممارسة الشطط والقوة والجبروت والقهر والتحقير والإهانة في حق المغاربة من
الفئات الضعيفة والهشـة، بعيدا عن سلطة القانون.
بيت القصيد في الواقعة المؤلمة، هو الطفل “الراعي الصغير” الذي
تكلف برعي القطيع نيابة عن والده، قبل أن يقوده القطيع إلى داخل الضيعة ويقع ما
وقــع، وهو طفل يقل عمره عن 16 سنة في أقصى تقدير، ومكانه الطبيعي هو المدرسة
والتعلم وليس الرعي، وهنا نثير احتمالين اثنين لا ثالث لهما : إما أنه منقطع عن
الدراسة أو لم يدرس قط، ويمارس النشاط الرعوي، أو يحمل صفة التلميذ ويساعد والده
في عملية الرعي، إذا قبلنا بالطرح الأول، فهذا يفرض إثارة موضوع الهدر المدرسي
الذي يجعل الملايين من الأطفال المغاربة خارج “زمن التعلم” يواجهون واقع
الغموض والإبهام والضياع والهشاشة والانحطاط والعرضة للانحراف، وإذا مالت الكفة
إلى الطرح الثاني، فهذا يسائل قضية ”التعليم عن بعد” ومدى نجاعتها وقدرتها
على ضمان ما سمي بالاستمرارية البيداغوجية، في ظل غرق الكثير من الأسر في أوحال
البؤس ومفرداته، بشكل يجعل من “التعلم عن بعد” نوعا من
“الترف”، فمن يرعى أو يحارب الجوع أو يعاني من أجل ضمان قوته اليومي، من
القساوة أن نخاطبه بلغة الأنترنيت أو الفيسبوك أو منصات التعليم عن بعد أو
الواتساب أو حتى التلفاز اللائق أحيانا، ومن الظلم، أن نخضعه لوضعيات تقويمية، لا
يتوفر قطعا على شروطها ومستلزماتها.
قبل الختم، اخترنا كعنوان للمقال “الفرنساوي والراعي الصغير”،
وهو عنوان يضعنا أمام معادلات “القوة” و”الضعف”
و”الغنى” و”الفقر” و”الظلم” و”البراءة”
و”القهر” و”الصبر”، وكلها معادلات حضرت بقوة في زمن الحماية
الفرنسية والإسبانية على المغرب، حيث عانى الآبـاء والأجداد من ظلم وغطرسة
المستعمرين، الذين لم يجدوا حينها، حرجا في استغلال المغاربة وسلبهم أراضيهم
وممتلكاتهم وتحويلهم قسرا إلى عمال مأجورين في الضيعات، بعدما كانوا ملاك أراضي
وضيعات، وهي مشاهد، استدعت – وقتها – الرهان على المقاومة والكفاح، فتم تحرير
الأرض وتحقيق نعمة الحرية والاستقلال، وكمغاربة، لا نقبل إطلاقا أن نعاين أي تصرف
أجنبي من شأنه المساس بالكبرياء والكرامة، ونحن نعيش في ديارنا وفي أرضنا التي ضحى
من أجلها الآباء والأجداد، وبما أن الحدث يتزامن وذكرى رحيل فقيد الأمة جلالة
الملك محمد الخامس طيب الله ثراه (10 رمضان)، والذي(الحدث) واكبناه بمقال خاص، فهي
مناسبة لنؤكد أن “الكرامة” هي رأسمال كل مغربي قح، ولا نرضى بظلم أو
إهانة، خاصة إذا كان مصدرها “أجنبي” يعيــش بيننا ويستفيد من خيراتنا،
ولا نقبل قطعا، بأي تحرش أو إملاءات أو حملات مسعورة، تستهدف التراب أو السيادة أو
العرض أو الكرامة أو الثوابت، ونختم بالمطالبة بتطبيق القانون في النازلة وإدانة
الفاعل بما يستحق من عقاب، واستعجال تقديم المساعدة للفلاح المتضرر جراء الضرر
المادي الذي تعرض له بعد دهس ما يتوفر عليه من قطيع، أما الطفل، فهو يحتاج إلى دعم
نفسي والتفاتة ومواكبة تربوية إذا كان تلميذا لازال في طور التمدرس، وتمكينه من
بعض المستلزمات (طابليط، هاتف…) التي يمكن أن تساعده في عملية “التعليم عن
بعد” التي لا بديل عنها في “زمن الجائحة”…
مع الإشارة أن
المغرب ظل عبر التاريخ جسر عبور وتواصل وتلاقح، ينفرد بحسن الضيافة والكرم ويحتضن
الأجانب بمحبة ورحابة صدر وطيب خاطر، لكن لا يرضى ولن يرضى بالممارسات أو التصرفات
“غير المسؤولة” الماسة بالكرامة، والخارجة عن حدود اللباقة والاحترام،
مهما كان مصدرها أو محركها في الداخل كما في الخارج… الكاتب ..ع..ل..